محمد كوزغار: عام الجاموس...

محمد كوزغار: عام الجاموس... محمد كوزغار
كان يا مكان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان...بلاد تسمى تامسنا...
عاشت هذه البلاد، سنين عجاف، انحبس فيها الغيث، وجفت الينابيع، وفقدت الأنهار مسيرها...وهلك بسبب ذلك الحرث ونسل الأنعام...التي زاد سعرها، وأصبح تناول لحمها ضربا من الكماليات...
هكذا فُقد اللحم، من الدور، ومن الخوان...وامتنع الناس قسرا لا خيارا من استهلاكه، فكسدت سلعة القصابين، ولم يعد أحد يرتاد محلاتهم، أو يسألهم عن الذبح والذبيحة...
فازداد حنق العامة، وسخطهم على قصر ذات اليد، وعجزها أن تطال أسعار لحم الأنعام الآخذة في الصعود إلى علياء السماء...
كان هذا أمرا محزنا، فالنساء لا يعرفن من الطبيخ إلا ما اقترن بلحم، والرجال يرون في استهلاكه تشبها بالسباع، فحولة وشجاعة...
فطرق هذا الأمر الجلل، مجلس أهل النظر، الذين أفتوا لأهل الشوكة، بجواز استقدام لحم البقر من بلاد تسمى البرازيل، معروف أهلها بعشقهم الشديد للهو بقطعة من الجلد المنفوخ بالهواء، يركضون خلفها، ويشبعونها ضربا، والفائز فيها من أدخل هذه القطعة في بناء من عارضتين، يسمى بالمرمى، يؤتمن عليه حارس يصد من يقترب منه...
لكن هذا الاستقدام، محفوف بمخاطر جمة، ليس أقلها، طول المسافة بين القطرين، واقتصار الاتصال بينهما على مسلك في بحر الظلمات، ترتاده سفن تستغرق في غدوها شهر وفي رواحها شهر آخر...وقد يؤثر ذلك على سلامة الأنعام، بل وقد يهلك بعضها، أو قد تصاب بوباء قد يعجل بنفوقها أو بعدم صلاحيات لحملها للاستهلاك الآدمي...
لم تكن هذه المسألة الوحيدة التي أرقت أهل النظر، إذ انضاف إليها، عدم تعود بلاد تامسنا على أنعام البرازيل، ذات الشكل العجيب، الذي وصفه "إسحاق شاريا"، بأنها تقع ما بين "الجمل والماموث"...وأنها تعز على الوصف والتصنيف، فلقد اجتمع فيها ما تفرق في غيرها، حتى أنها تظهر وكأنها تجميع لأجزاء من حيوانات شتى، فسبحان المصور، في أي صورة شاء ركبه...
بعد طول انتظار...رست السفن بالمرسى، محملة بالأبقار الجواميس، فرح الناس لمقدمها، فهي بشرى سعد، لدنو نهاية ساعة الغلاء، وبداية استعادة استهلاك اللحم، وممارسة طقس الشواء...خرجت الجواميس من القضبان التي طوقتها منهكة، وعظامها بارزة، فلقد أوهنها الجوع والعطش، وتقلب الأحوال...من حال البر إلى واقع البحر...
وتطمينا للمستهلكين، أجريت على الجواميس التحليلات اللازمة، ونشرت الدعاية أخبارا عن تتبع كناش حالتها من ولادتها إلى لحظة قدومها، وأن العظام البارزة، ستتكفل بها عمليات للتعليف، وسرعان ما سيعود اللحم الأحمر ليكسوها...ويدب الحياة فيها من جديد...
فحانت لحظة الذبح العظيم...ووقف الجميع في المسلخ، ينتظرون مرور أول سكين على رقبة الجاموس الضحية، على الطريقة المرعية...وتأدبا من الجزار، سأل الأضحية عن آخر أمنيتها، فأسرت له في رغبتها في زيارة محطة القطار بتامسنا...فأذن لها بذلك، شريطة أن تعود بسرعة...
فخرج الجاموس، إلى الشارع العام يتجول بحرية، يمشي تارة وتارة يسرع وتارة أخرى يأخذ قسطا من الراحة على حشيش أخضر، مصفف بعناية...فانتشر الخبر بين الناس، حول حيوان غريب المظهر والأطوار، يتجول في الأسواق، ويقتحم الدروب، ويقلق راحة الناس...فتساءلوا عن السر وراء ذلك، فرويت لهم الحياكة، كما دونت في هذه المقالة...
وتأريخا لهذا الحدث الجلل، أطلق أهل تامسنا على عامهم المعني "عام الجاموس"...