الخطاب الملكي الذي ألقاه جلالته بمناسبة عيد العرش، كان مكثف الإشارات وغزير المضامين، حتي وإن بدا نصه صغيرالحجم مقارنة مع خطابات العرش السابقة، والتي جري العرف بانها تكون طويلة شيئا ما، لتضمنها جردا كاملا لما تم فعله خلال سنة وما تعتزم الدولة القيام به مستقبلا. مع الحرص علي إبراز نقط القوة والضعف، فإن خطاب العرش كان علي العكس، صغير الحجم لكن في المقابل غزير المعطيات وعميق الإشارات لدرجة يمكن القول معها إن الخطاب لامس كل القضايا الجوهرية التي تعرفها بلادنا. ودون الدخول في التفاصيل ولكن بإشارات شاملة ومعبرة على كل شيء..
قراءتي يمكن التطرق إليها عبر ثلاثة مداخل أساسية اَو ثلاث رسائل كبرى تضمنها الخطاب، يجمعها عنوان واحد هو جدية المغرب وتشبثه بمبادئ المسؤولية الأخلاقية والقانونية والإنسانية في السياسات التي تدبر بها كل القطاعات والملفات سواء منها الخارجية أوالداخلية، وإن شئنا بعض التفصيل نقول بأن:
الرسالة الأولى: التي أراد أن يؤكد عليها العاهل المغربي هي موجهة للمنتظم الدولي بأكمله، فحواها أن الأشواط التي قطعها المغرب في سبيل إنهاء مشكل قضيته الوطنية، والذي تكلل بتزايد عدد المعترفين بمغربية الصحراء ووجاهة الطرح المغربي ممثلا في مقترح الحكم الذاتي، هو حل مغربي صرف، ومقترح سيادي جاء بفعل العمل الدؤوب والتفكير المعمق والإلتزام الأخلاقي بمبادئ الشرعية الدولية، وهو الذي يرمز إلى مفهوم الجدية الذي استعمله جلالة الملك في هذا الصدد، بمعنى أن المغرب جاء بهذا المقترح ليعبرعن نية صادقة في إحلال السلام وتغليب منطق الحوار علي البندقية ورغبته في العيش المشترك والبناء الجماعي، ولم يقايض وحدته الترابية بشيء آخر كما يدعي زورا بعض الخصوم، فلأنه دولة جادة، ولأن المغاربة معروفون بخصال الصدق والتفاؤل والتسامح والانفتاح والاعتزاز بالهوية الوطنية الموحدة وبالتفاني في العمل، تقدموا بهذا المقترح الجاد والموضوعي والمسؤول والذي أسفر عن ثقة الدول به وترجمة هذه الثقة في توالي عدد الإعترافات بسيادة المغرب على الأقاليم الجنوبية، كما أن المشاريع الأخرى التي حققها المغرب سواء في مجال الطاقة أو البنية التحية وغيره، هي نتيجة منطقية لهذه الجدية التي عبر عنها جلالة الملك، والتي تحولت إلى عقيدة راسخة وسلوك معتمد وبرنامج عمل ميداني يشمل مجموعة من المبادئ العلمية والقيم الإنسانية وليست مجرد شعار فارغ. هذه الجدية هي ذاتها التي دفعت المغرب إلي تبني وجهة نظر أخري في الدفاع عن القضية الفلسطينية من منطلق الدفاع عن مصلحة الفلسطينيين قبل أي شيء وليس من منطلق المزايدة علي قضيتهم والركب عليها لتحقيق مكاسب اخرى بعيدا عن المصلحة الحقيقية للإخوة الفلسطينيين الذين آن لهم أن ينعموا بالأمن والإستقرار في دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، إذن فلا مزايدة على المغرب في هذا المجال، وهو المعروف دائما وأبدا بمواقفه الثابثة حيال القضية، لانها مواقف جادة ومبدئية ولا تتبدل تبعا للمصالح.
الرسالة الثانية: التي فهمتها من الخطاب، فموجهة إلى الداخل، بكل مكوناته السياسية والإدارية والقضائية والإقتصادية وحتى عموم المواطنين، فحواها أن الجدية التي أبان عليها المغرب في الخارج، وترجمت بازدياد عدد الدول الواثقة بمشروعه، يجب أن تجد صداها في الداخل من خلال خدمة المواطن واختيار الكفاءات المؤهلة وتغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين والترفع عن المزايدات والحسابات الضيقة، والاهتمام بما ينفع البلاد التي هي الآن في حاجة إلى صحة في المستوى وتعليم جيد وسكن كريم وشغل يضمن كرامة المواطنين وبيئة استثمارية تحفز على العطاء والعمل، فالجدية التي اشار إليها العاهل المغربي في هذا الصدد، يجب أن تصبح منهجا متكاملا علي الصعيد الداخلي، قوامها ربط المسؤولية بالمحاسبة وإشاعة قيم الحكامة والعمل والاستحقاق وتكافؤ الفرص بين الجميع، لذلك لم يتردد جلالة الملك في هذا الإطار، إلى إعطاء نموذج يحتذي لهذه الجدية التي يدعو إليها.ألا وهو عدم التساهل مع كل أشكال التبذير وسوء الحكامة والاستعمال الفوضوي واللامسؤول للماء، وقد اقتصر جلالته على هذا النموذج، لأنه كاف في الدلالة، بالنظر إلى الأممية الإستراتيجية التي بات الماء يحظى بها مع توالي فترات الجفاف، وإلا فخطاب ربط المسؤولية بالمحاسبة يسري على الجميع ويمتد ليشمل كل القطاعات.. أما المضمون الثاني في هذا الرسالة، فيتعلق بمنظومة القيم والمرجعيات التي كثر فيها الحديث مؤخرا بسبب تداخل العديد من الأزمات، وحتى يكون خطاب جلالته حاسما ومختصرا ينسجم مع مبدأ الجدية الذي جعله عنوان خطاب عيد العرش، فقد جدد الحسم على اختيارات الأمة القاضية بالتمسك بالقيم الدينية والوطنية والتشبت بالوحدة الترابية وصيانة الروابط الاجتماعية والعائلية من أجل مجتمع متضامن ومتماسك. وأعتقد أن هذا المضمون، كاف جدا لتأطير النقاش الجاري الآن ببلادنا والذي نحا إلى اتجاهات غير قويمة، وهو المتعلق بمراجعة مدونة الأسرة وما يرافقها من خطاب حول الحريات وغيره، فتوجيه صاحب الجلالة هنا واضح جدا.
الرسالة الثالثة: فموجهة لدولة الجوار وهي الجزائر، فقد جدد الدعوة إلى المصالحة من جديد، واكد لها امام العالم،ان المغرب، بلد التسامح والانفتاح والعمل الجاد، لم يكن يوما ما مصدر شر أو سوء لها، بل كانت يده دائما ممدودة لنشر قيم المحبة والصداقة والتبادل والتواصل بين الشعبين المغربي والجزائري، ويتطلع اليوم - كما الأمس- إلي أن تعود الأمور إلي طبيعتها وتفتح الحدود بين الجارين الشقيقين، وأعتقد أن هذه الدعوة كان من الطبيعي جدا ورودها في خطاب ملكي مهم، عنونه بالجدية والالتزام، فمن شروط الجدية الدفاع عن حسن الجوار ورعاية المصالح المشتركة والحرص على مستقبل ابناء البلدين، ولن يكون هناك مستقبل زاهر في ظل حالة الاحتقان والتأجيح والعنف القائمة الآن، فالمغرب يمد يده اليوم ليس من باب الضعف أبدا، ولكن من باب الجدية والحكمة والرزانة في عالم متغير لن يزيدنا التشردم فيه إلا الضعف وإهدار الطاقات..
رشيد لبكر
أستاذ العلوم السياسية بكلية الحقوق جامعة شعيب الدكالي