طفا على طاولة المجلس البلدي لواحة فجيج موضوع جديد قديم، تتأهب بعض الأطراف لمعالجته ضدا على مصالح الواحة وأهلها، ويتعلق الأمر بخصخصة قطاع ماء الشرب وتفويته من المصالح البلدية لفائدة مؤسسة وافدة (إلى جانب الصرف الصحي وتوزيع الكهرباء)، وقد عرف الحدث احتجاجات المواطنين ورفضهم للعملية، كما رفض المجلس الجماعي عملية التفويت في دورته الأخيرة، إلا أنه عاد لجدولة دورة استثنائية ليومه الثلاثاء، ربما لمراجعة قراره، فهل سيستجيب للضغوط التي تشير إليها بعض الأطراف، أم سيتمسك بموقفه؟
لقد سبق أن نوقش هذا الموضوع (الماء) عدة مرات، وأتذكر مشاركتي الفعالة والشرسة في إحدى حلقات النقاش بمقر البلدية وبحضور أطراف وازنة، قبل حوالي عقدين من الزمن. كانت الذريعة آنذاك هي ضرورة تطوير القطاع وعصرنته بما يخدم مصالح البلاد والعباد، غير أن ذلك لا يكون بلا ثمن، تؤديه الأطراف التي كان سيعهد إليها تدبير الأمر، فكان من الضروري توضيح ما خفي في الأمر وهو ما سوف يؤديه المواطن وكل كائن حي بالمجال الواحي من حيوانات ونباتات، طبقا لإجراءات الرفع الضروري من تسعيرة الاستهلاك المرتقبة في مثل هذه العمليات. كانت هناك بعض الصعوبات في إقناع المعنيين على التراجع عن فكرة التفويت، ومع ذلك في الأخير، تفهم الكثيرون خصوصيات الواحة، المتمثلة في صعوبة استمرار الاخضرار والاستقرار بالواحة دون تضحيات ليس من المفروض أن يتحملها المواطن لفائدة أطراف دخيلة، لا تروم تطوير القطاع فقط، وإنما جني أرباح طائلة على حساب حيوية الواحة.
ارتكز المشروع على ما جاء به مروجوه آنذاك من استنتاج إحصائي صحيح، ولكنه مغرض وغير منصف، مفاده أن نسبة استهلاك المواطن الفيجيجي من ماء الصنبور تضاهي أو تفوق ما يستهلكه المواطن في الأحياء الراقية بالرباط والدار البيضاء، وبالتالي فالمواطن الفجيجي مبذر للماء بسبب انخفاض التسعيرة التي يطبقها المجلس البلدي... فكان لابد من توضيح ما غاب عن أولئك، وهو أن كمية الاستهلاك في واحة فجيج لا ينبغي أن توزع فقط على عدد السكان من البشر، وإنما كذلك على عدد رؤوس المواشي وعلى عدد النخيل وبقية الأشجار المثمرة وكل نبتة منتجة تستفيد من هذا الماء. وكان لابد من التذكير بأن مقومات وجود الواحة أصلا هي الكتلة الحيوية التي تستفيد من الماء، إذ لا استمرارية لها بدون توفير الماء بأداء قد يكون رمزيا أو مدعوما.
وكان لابد من إبراز خصوصية موقع الواحة الحدودي ومعاناتها من تبعات وضع حدود مجحفة اقتطعت مجالات ترابية منتجة في ملكية المواطنين أبا عن جد، لم تعد تحت سيادة السلطة المغربية التي فرطت فيها. وكان لابد من التوصية على الاستمرار في تحفيز وتشجيع المواطن على البقاء بالواحة، من خلال إجراءات استثنائية ذات طابع اجتماعي وسياسي واقتصادي، للحيلولة دون النزوح وإفراغ الواحة المتنامي بوتيرة قد تصبح مخيفة. ويعتبر تطبيق الأثمنة التفضيلية للماء من أهم تلك الإجراءات. وللإشارة، فقد يبذَّر الماء في أي مكان، إلا في فجيج ومثلها من الواحات، حيث تسود ثقافة المحافظة على هذا المورد الحساس والمحدود من خلال درايات محلية تراثية أصبحت خاضعة لتصنيفات واهتمامات دولية.
نتمنى ألا يتجاهل المجلس البلدي هذه الحيثيات، وألا يسقط في أوهام "الخصخصة الرافعة للتنمية المستديمة"، وأن يعي ما يحدق بالواحة من مخاطر. ونتمنى من هذا المجلس أن ينبذ إقصاء الكفاءات والمواطنين، وأن يشركهم في تدارس القضايا المختلفة ضمن مقاربات تشاركية ونقاشات شفافة بناءة، بدل الانزواء والاستفراد باتخاذ قرارات مصيرية قد لا تظهر رعونتها إلا بعد فوات الأوان. وأمامنا أمثلة في هذا السياق، نسوق منها مشروع ما سمي عبثا بـ "الطريق السياحية" التي أخلت بأصالة المشاهد التراثية دون تحقيق المنشود منها، ضدا على القوانين والمساطر التي لم تُحترم قط، إذ أنجزت دون دراسات قبلية ودون موافقة ومصادقة الأطراف المعنية بحكم القانون، ويحضر مثال آخر هو المحاولة الفاشلة التي أطلقها هذا المجلس قبل سنة كان يهدف منها إلى إخراج الواحة من التصنيفات الوطنية والدولية القائمة والمرتقبة تراثا عالميا، لأغراض غير معلنة لن تخدم الواحة، بذريعة واهية وغير واعية، وهي عرقلة التصنيف للتنمية (!).