mercredi 4 juin 2025
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: أوضاعٌ أو تناقضات لا يقبلها العقلُ

أحمد الحطاب: أوضاعٌ أو تناقضات لا يقبلها العقلُ أحمد الحطاب
من غير المشكوك فيه أنه لا يوجد على وجه الأرض شخصٌ أو بلدٌ بأكمله لا يريد أن يتطوَّرَ. الشخص، عندما يبلغ سِنَّ التَّمدرس يذهب إلى المدرسة ليكتسبَ كلَّ ما من شأنه أن يجعلَه قادرا على الاندماج في المجتمع وفي الحياة العملية. وهذا شيءٌ، في حدِّ ذاتِه، تطوُّرٌ مهمٌّ. والاندماجُ في المجتمع وفي الحياة العملِية هو، في الحقيقة، خطوةٌ أولى نحو تطوُّرِ البلد علما أن هذا التَّطوُّرَ يكتمل عندما يتساكنُ ويتعايشُ ويتكاملُ ويتضامنُ أفرادُ هذا البلد. بل إن سرَّ وجودِ أي بلدٍ من بلدان عالَمِ اليوم هو التَّطوُّر، أي الانتقال من وضعٍ غير ملائم أو حسنٍ إلى وضعٍ أحسنَ منه اجتماعيا، اقتصاديا وثقافيا.
والتَّطوُّرُ، من منظور اجتماعي، هو أن تُوفَّرَ الكرامةُ لجميع المواطنين. والكرامة هي أن يستفيدَ هؤلاء المواطنون من خدمات عالية الجودة من تعليم وصحة وإدارة وشغل. والكرامة، من منظور اجتماعي، تقتضي كذلك أن توضعَ رهن إشارة المواطنين الحاجات الضرورية للحياة اليومية من ماء وطاقة وكهرباء ونقل وبنيات تحتية… وتحقيقا لهذه الخدمات والحاجات، يرسُم حكَّامُ البلاد ويضعون البرامج والسياسات العمومية التّنموية من أجل تطويرها وتحسينِها بانتظام.
أما التَّطوُّر، من منظور اقتصادي، فجميع البلدان، بدون استثناء، تسعى ليكونَ اقتصادُها منافساً للاقتصادات الأخرى ومُنتِجا للثروة ويسجِّلَ أرقاما قياسيةً في النُّمو، أي أن ينموَ الناتِجُ الداخلي الخام، باستمرار من سنة إلى أخرى.
والتَّطوُّرُ، من منظور ثقافي، هو أن يكونَ المواطنون مثقفين و واعين بما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات. أن يكونوا مثقفين يعني أن يكونَ مستواهم التّعليمي متماشِياً مع ما ينتظرهم من مساهمة في تقدُّم البلاد وازدهارها. والثقافةُ، بدون أدنى شك، تساهم في هذا التَّقدُّم وفي هذا الازدهار. وفضلا عن كون الثقافة عاملا من عوامل النهوض بالانتماء للوطن وبقيم المواطنة وحب الوطن، فإن البلاد مُطالبةٌ بتوفير كل ما من شأنه أن يُساعدَ على هذا النُّهوض من فنون بجميع أشكالها ودُور الشباب ومسارح وقاعات السنيما…
وعندما تلتقي على أرض الواقع، في نفس البلد، الأنواعُ الثلاثةُ من التَّطوُّر (الاجتماعي، الاقتصادي، الثقافي)، فإن هذا البلدَ يكون قد خطا خطواتٍ مهمة نحو التَّقدُّم والازدهار. 
هناك بلدانٌ، بفضل هذا التَّطوُّر الثلاثي، وصلت إلى قمة الازدهار والتَّقدُّم كما هو الشأنُ مثلا لأمريكا الشمالية وبلدان غرب أوروبا والبلدان الأسكندينافية...
وهناك بلدانٌ منهمكةٌ في بناء هذين الازدهار والتَّقدُّم كما هو الشأن مثلا لبلدان شرق وجنوب آسيا…
وبلذانٌ بعيدة كل البعد عن هذين الازدهار والتَّقدُّم كما هو الشأنُ مثلا لكثيرٍ من البلدان الإفريقية…
وهنا، سأعود إلى عنوان هذه المقالة : "أوضاع أو تناقُضات لا يقبلها العقل ". قبل أن أوضّْحَ لماذا هذا العنوان، أُشِير أن بلدَنا يمكن أن نُصنِّفَه ضِمنَ البلدان المنهمكة في بناء الازدهار والتَّقدُّم. بالفعل، إن بلدنا يتطوَّر شيئا فشيئا، لكن هذا التَّطوُّر تعتريه تناقُضاتٌ أو أوضاعٌ لا يقبلها العقلُ. لماذا لا يقبل العقلُ هذه التناقضات أو هذه الأوضاع؟
لأنه، عندما يكون البلد مُنتِجا للثروة، فمن الطبيعي ومن المنطقي أن تعودَ هذه الثروةُ بالنفع، أولا وقبل كل شيءٍ، على المواطنين. وأهمُّ نفعٍ، من المفروض أن يجنيَه هؤلاء المواطنون، هو العيش الكريم. فهل هذا العيشُ الكريم مُوَفَّرٌ للجميع؟ بكل صراحةٍ، الجوابُ هو لا. بعد مرور 67 سنة على نيلٍ الاستقلالِ، إنه، فعلا، وضعٌ أو تناقض لا يقبله العقلُ وخصوصا أن هذا الوضعَ أو التَّناقض يوجد في بلدٍ يتطوَّر بالتَّدريج!
بالفعل وبكل تأكيد أن البلادَ تتطوَّر، لكن هذا التَّطوُّرَ مشوب بأوضاعٍ أو تناقضات يصعبُ على العقل قبولُها. يصعب قبولُها لأن مسيرةَ البلاد نحو التَّطوُّر، رغم مرور أكثر من نصف قرن على استقلالها، لا تزال هذه المسيرة مشوبةً بآفات وقضايا لم تعرف طريقَها إلى الحلول.
من بين هذه الآفات، أذكر على الخصوص، الأميةَ، الفقرَ والفسادَ. فكيف لهذه الآفات أن توجدَ في بلدٍ يطمح أن يُصبحَ من ضمن البلدان الصاعدة pays émergents في أقرب الآجال؟
فيما يخصُّ الأمية، لا يخفى على أحدٍ أن هذه الأميةَ التي تطال، تقريبا، ثلُثَ سكان البلد، تكون سببا في غياب أو تغييب الوعي لدى شريحة عريضة من المواطنين. وإذا غاب الوعيُ، قد يصبح المواطنون عُرضَةً للعديد من المآسي، أذكر منها مثلا : الإقصاء من الدورة الاقتصادية، ضياعُ بعض الحقوق والإخلالُ ببعض الواجبات، تلاغبُ السياسيين غير النزهاء بإرادة الأميين، عدم التَّوفُّر على خلفية فكرية تساعد على التَّمييز بين الأشياء وعلى إصدار الأحكام، التَّعرُّضُ للبطالة أكثر من الغير، الحصول على مناصب شغلٍ غير مفيدة ماديا، هشاشة مالية، عدم الإلمام بالقواعد الصِّحية…
أما الفقر، فإنه آفةٌ تجثُم على صدور الملايين من المواطنين. وما يُلاحظُ في أيامنا هذه أن رُقعةَ هذا الفقر في اتِّساعٍ متزايد وقد تطال ، بسبب تدهور القدرة الشرائية للمواطنين، جزاً لا يُستهان به من المنتمين إلى الطبقة المتوسِّطة. وبما أن الأمِّيةَ تكون سببا من أسباب الفقر، فاقترانُ هذه الأمية بهذا الفقر يزيد في الطين بلةً. يزيد في الطين بلَّةً لأن المواطنين الذين هم ضحيةٌ، في نفس الوقت، للأمية و الفقر يفقدون الثقةَ في أنفسهم و يشعرون بالإهانة و بالتَّهميش مقارنةً مع الآخرين. وفوق كل هذا وذاك، يفقدون استقلاليتَهم الفكرية، الاجتماعية والاقتصادية. بل إنهم مهووسون بمآل مصيرهم غدا وبعد غدٍ…
أما الفسادُ، فإنه آفةُ الآفات. لقد نَخَرَ جميع مرافق الحياة. هذا إن لم نقل إنه أصبح بِنيويا، بمعنى أنه أصبح واحدا من محرِّكات الحياة اليومية للمواطنين. وهذا يعني أن هذا الفسادَ أصبح مستشرياً في المجتمع إلى درجة أنه، في بعض الحالات، أصبح ثقافةً أو قانونا قائمَ الذات. وفضلا عن كل هذه الاعتبارات، الفساد يشكِّل عائقا للنمو الاقتصادي، بمعنى أنه يؤثِّر على نمو الناتج الداخلي الخام. بل إنه يقف حجرَ عثرة في وجه دولة الحق والقانون. كما يتسبَّبُ في ضياع الكفاءات والعديد من الموارد المهمة. وقد يُشكِّل عائقا في وجه الاستثمار ويُعرقل الحكامة الجيِّدة والانتقال الديمقراطي، إضافةً إلى جعل المواطنين يفقدون الثقةَ في السلطة وفي المؤسسات العمومية…
فهل يُعقلُ أن بلدا مرَّت على استقلاله 67 سنة وقطع أشواطا ملموسة في التَّطوُّر الاقتصادي وفي إنشاء وتشييد البنيات التَّحتية، وله وزنٌ إفليمي وقاري ودولي، وتعاقبت على تدبير شأنه العام أكثر من ثلاثين حكومة…، لا يزال يعاني، إلى يومنا هذا من هذه الآفات الثلاثة؟ إنه فعلآ أمرٌ محيِّرٌ لا يقبله العقلُ! وخصوصا أن بلدانا كانت، في الماضي القريب، مغمورةً بل وفقيرة، استطاعت أن تتجاوزَ هذه الآفات وأن تصبح مصنَّفة في خانة الدول الصاعدة (كوريا الجنوبية، سنغفورة، ماليزيا، إندونيسيا…). فأين يوجد الخللُ؟
الخللُ الرئيسي هو، أولا وقبل كل شيءٍ، غياب الإرادة السياسية القوية. وإذا غابت الإرادة السياسية، فكل ما ترسمه الحكومات، المتعاقبة على تدبير الشأن العام، من أهداف وسياسات عمومية، مآلُه الفشل. وهذا هو ما حصل!
وحتى لو توفَّرت هذه الإرادة السياسية، فإن َالشرطَ الأساسي والضروري لإنجاح السياسات العمومية الموجّهة لمحاربة هذه الآفات الثلاثة، هو إصلاح المنظومة التربوية والتعليمية وإعادة النظر في توزيع ما تُنتِجه البلادُ من ثروات. المنظومة التربوية والتعليمية، بتعميم خدماتها،  ذات الجودة العالية على الجميع، تساهم في محاربة الأمية والفقر والفساد. وتوزيعٌ عادلٌ ومُنصِفٌ للثروة يُوفِّر كرامةَ العيش.