كنتُ أسير في الشّارع باتّجاه هدفي، مطأطئ الرّأس، لمّا ألحّ عليّ عنوان هذه الخاطرة (إذا رفعتَ وقعتَ)، وهو عنوان يحكي معاناة الصّائم في مثل هذه البلاد في مثل هذا الطّقس الصّائف.
ثمّ جال بي الخاطر يصطاد ما يروق ويفيد...
(إذا رفعت خالفت)، يذكّر بآداب المساجد التي باتت اليوم تشكو كثيرا من الضّمور وربّما الغياب، فإنّ رفع الصّوت فيها مخالف لآدابها، جالب للآثام، مذهب للهيبة...
(إذا رفعت فجَرت)، يحذّر من الخلاف المؤدّي إلى الخصومة المعتمِدة عادة على رفع الصّوت الذي قد يُكسب صاحبه دون رغبة منه ولا انتباه خصلة من خصال النّفاق [وإذا خاصم فجر].
(إذا رفعت أثمت وفتنت)، فالتّاجر الصّدوق الأمين مع النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء، كما أخبر الحبيب ﷺ، وأمّا إذا كذب وغشّ ونشد ربحا يضعه في دنيا الجشع والأنانيّة، فرفع الأسعار ولا سيّما في أيّام التّراحم والصّدقة والزّكاة، فعسّر بذلك على النّاس وفتنهم حتّى رأى الضّعيفُ منهم رمضان - كما يريد أن يصوّره له كفّار المسلمين والإعلام الفاسد - موسمَ جهدٍ ومعاناةٍ وضيقٍ، فإنّه يأثم ويفوّت عليه فضل التّاجر الأمين الصّدوق...
إنّ الصّيد وفير والأمثلة كثيرة في دنيا النّاس الصّاخبة، غير أنّي أكتفي بما ذكرت وأتوقّف – مختصِرا - عند حقيقة تؤكّد عدم سلبيّة الرّفع في المطلق.
فرفع الرّأس، في غير تكبّر، في دنيا إذلال النّاس مكرُمة، شأنه شأن تلك المشية [إنّها لمشية يُبغضها الله إلّا في مثل هذا الموطن]، قالها الحبيب ﷺ لسِمَاكٍ بنِ خَرَشَةَ (أبو دجانة) لمّا كان يختال عند الحرب وقد أخذ من النّبيّ السّيف بحقّه المتمثّل في (إحناءِ رؤوس المشركين)[1]. ورفع الصّوت في دنيا الخنوع مروءة وهي إلى ذلك مقاومةُ باطلٍ ودمغُ ظالمٍ ومنعُ ظلمٍ ومقامةٌ سامقةٌ من مقامات الجهاد في سبيل الله، أليس الحبيب ﷺ لمّا سُئل عن أيّ الجهاد أفضل أجاب: [كلمة حقّ عند سلطان جائر][2]. ورفع راية الحقّ والاستماتة في الدّفاع عنها شجاعة ومكرمة ورِفعة لا يأتيها إلّا متعلّق بحياة دائمة لا تنغيص فيها، كحياة جعفر الطّيّار رضي الله عنه الذي فقد ذراعيه في الدّفاع عن الرّاية. وإنّ الدّفاع عن الرّاية ليزداد قيمة وشرفا في أرض تتكاثر فيها رايات الباطل ويسفُل فيها رافعُوها[3].
نسأل الله الثّبات على الحقّ، وارفعوا رؤوسكم فأنتم - إن أخذتم بالأسباب – الأعلون، والله معكم ولن يتركم أعمالكم.
هوامش
[1] محمد بن عبد الله الشّوكاني: نيل الأوطار - تح. عصام الدّين الصّبابطي - دار الحديث، مصر - ط1 - 1413هـ الموافق 1993م - ج7 - ص 287
[2] أبو محمد الغيتابى: عمدة القاري شرح صحيح البخاري - دار إحياء التّراث العربي – بيروت - ج7 - ص 224
[3] البخاري: صحيح البخاري - كتاب المغازي - حديث رقم: 4262 – ج 5 - ص 143.