في هذه الحلقة من سلسلة الحوارات التي أجرتها جريدتا "الوطن الآن" و "أنفاس بريس"، مع الباحث الأستاذ المصطفى حمزة بصفته متخصصا في التاريخ الجهوي والمحلي، تناولنا حكاية خلفية زواج القائد عيسى بن عمر، بعَيْطُونَةْ الْحَمْرِيَّةْ بَنْتْ القائد عَلَّالْ بَنْ بَّا. بحكم أن القائد عيسى بن عمر كان من أبرز القواد الذين عرفهم مغرب الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والنبش في طبيعة علاقته بقبيلة أحمر وقيادها وأعيانها ومحيطها الجغرافي، فضلا عن تفاصيل أخرى يكشف عنها الباحث في سياقها التاريخي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي...فكان لنا معه الحوار التالي :
كيف ترصد بداية حكاية ارتباط عيسى بن عمر بزوجته الرابعة عَيْطُونَةْ الحمرية؟
عادة ما يتساءل الناس بشغف كبير عن الكيفية التي تم بها ارتباط زوجين، رغم بعد المسافة بين بلديهما، وتكون هناك رغبة ملحة لمعرفة سبب هذا الارتباط، وربما ينسجون حكايات حول الحدث تتخذ لبوسا متعددة، بحسب المكانة الاجتماعية للمتحدث عنهما (الراوي)، خاصة في الفترة التي نتحدث عنها، (أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين)، متناسين أن الفترة المشار إليها، كانت بدورها تحتوي على وسائل للاتصال، إن لم تكن متطورة تقنيا بالشكل الذي توجد عليه الوسائل التي نوظفها نحن حاليا في علاقاتنا العامة والخاصة، فإنها كانت تحمل أحاسيس إنسانية صادقة، ويتم عبرها الاتصال المباشر بين الأهالي، ويشارك عبرها الجميع في نسج علاقات إنسانية رائعة، تيسر عملية التقارب بين الزوجين وتساهم في تمتين العلاقات بين الأسرتين.
هل ممكن استحضار بعض وسائل الاتصال ذات الصلة بالحكاية؟
طبعا الجميع يعلم أن وسائل الاتصال القديمة كانت تتجسد في الأسواق الأسبوعية، والمواسم السنوية، والفرق الموسيقية، والَمْسَخْرِيَةْ، والرَّقَّاصْ، والْعَطَّارْ، والْخَاطِبَةْ...، وهي كلها وسائل للتواصل، وعبرها كانت تتم مجموعة من الرسائل. و بالتالي فداخل هذا النسق القديم، سندرج الحديث عن زواج الآنسة عَيْطُونَةْ بَنْتْ القائد عَلَّالْ بَنْ بَّا الَمْعَاشِي الْحَمْرِي ، والقائد الوزير عيسى بن عمر العبدي.
لماذا قرر القائد عيسى بَنْ عُمَرْ الْعَبْدِي الارتباط بعَيْطُونَةْ الْحَمْرِيَّةْ؟
تشير إحدى الروايات الشفوية، إلى أن القائد عَلَّالْ بَنْ بَّا الَمْعَاشِي الْحَمْرِي، زوج ابنته للقائد عيسى بن عمر العبدي حتى يتجنب قوته وانتقامه، دون أن تستحضر (الروايات) بأن القائد عيسى بن عمر العبدي، عرف عنه أنه كان ينتقي زوجاته من بين الأسر المخزنية العريقة ذات المكانة الاجتماعية، أو من القبيلة وخارجها، وهي مواصفات عادة ما كان القواد ذوي الطموح يلجئون إليها لتحقيق أحلامهم، إما لتوسيع مجالات نفوذهم، أو لتجنب معارضة ومقاومة بعض القبائل، والقائد عيسى بن عمر العبدي، كانت له الرغبة في فك الحصار الذي ضرب عليه بعد عودته من فاس بعد موت السلطان مولاي الحسن وتولية ابنه مولاي عبد العزيز.
انطلاقا من ذلك فإن ارتباط القائد عيسى بن عمر العبدي، بالآنسة عَيْطُونَةْ الحمرية، راجع بالأساس إلى كونها تنتمي إلى أسرة مخزنية عريقة وذات مكانة الاجتماعية داخل قبيلة أحمر، فقد كان والدها عَلَّالْ بَنْ بَّا، شيخا على فرقة أوْلَادْ مْعَاشُو خلال فترة قيادة أسرة بَنْ الضَّوْ، ثم ترقى إلى منصب قائد بعد ثورة الحمريّين على القائد أحمد بَنْ الضَّوْ عند وفاة السلطان مولاي الحسن عام 1311ھ / 1894م، وذلك مقابل الأدوار التي قام بها بالقبيلة ومنطقة الحوز خلال ثورة الرحامنة، وما كان يقدمه من خدمات للصدر الأعظم أحمد بن موسى أثناء تواجد المخزن بمدينة فاس، وعند عودة المخزن إلى مراكش تعززت مكانة القائد عَلَّالْ بَنْ بَّا وتوسعت قيادته.
هل هناك عامل آخر ينضاف إلى مكانة أسرة عَيْطُونَةْ الْحَمْرِيَّةْ؟
أكيد، فإلى جانب هذه المكانة التي كانت لأسرتها، كانت الآنسة عَيْطُونَةْ الْحَمْرِيَّةْ، ذات حسن وجمال وقوام، كما هو متضمن في متن إحدى العيوط العبدية، (الطَّفْلَةْ حَمْرِيَّةْ، لَحْزَامْ رْقِيقْ، الَمْضَمَّةْ شِيبِيَّةْ). بالإضافة إلى ذلك فقد زادها جمالا وتوهجا، ما كانت تجود به عبقريتها من إبداع في فن الطّبخ، فقد عرفت و ابنة أخيها محمد الآنسة دَامِي بكونهما طباختين ماهرتين، وأطباقهما تكون أكثر شهية وذوقا وتقديما، وخاصة أطباق الدجاج، فقد كان الدجاج بدار القائد عَلَّالْ بَنْ بَّا يطهى بطريقة جد خاصة (بدون عظام) ويقدم بطرق تسرُّ النّاظرين. وطبيعي أن تحظى طباخة ماهرة مثل عَيْطُونَةْ الْحَمْرِيَّةْ، بزوج مثل القائد عيسى بن عمر العبدي، الذي عرف بكرمه وجوده، إذ كانت بداره أجنحة مخصصة لاستقبال الضيوف وإقامة الولائم، حيث لم تكن تخل منهم، فقد كان القائد يذبح يوميا بقرة وعشرون خروفا والمئات من الدجاج، إذ كان يعرف أهمية المطبخ بالنسبة للأسر الغنية والأسر المخزنية، وما يمكن أن تفضي إليه الموائد التي تؤثثها الأطباق الشهية "لِلْحُرَّاتْ"، من مكاسب في المفاوضات. (يَدْ اَلْحُرَّةْ فِي الطْعَامْ إِيدَامْ).
هل فعلا كانت عَيْطُونَةْ الْحَمْرِيَّةْ (أم زُلِيخَةْ) امرأة فقيهة؟
طبعا، فإلى جانب كونها ذات حسن وجمال، وطباخة ماهرة، فقد كانت الآنسة عَيْطُونَةْ - أم زليخة - من حفظة كتاب الله، وكانت تقرأ الحزب مع أخويها أحمد ومحمد، ولعل هذا الارتباط القوي بين أم زليخة وأخويها، هو ما جعلهما يرفضان في البداية موافقة والدهما القائد عَلَّالْ بَنْ بَّا زواج أختهما من القائد سي عيسى، مما اضطر هذا الأخير إلى اللجوء إلى الشيخ سيدي الزْوِينْ الشَّرَّادِي، صاحب المدرسة القرآنية بالحوز، من أجل التدخل له وخطبتها من والدها القائد عَلَّالْ، نظرا للمكانة التي كانت لسيدي الزْوِينْ عند الحمريّين.
هل سيدي الزْوِينْ هو الذي أقنع أسرة عَيْطُونَةْ بزواجها من القائد عيسى بن عمر؟
يستفاد من كلام الشيخ سيدي الزْوِينْ للأخوين أحمد ومحمد بَنْ عَلَّالْ بَنْ بَّا، أن القائد عيسى بن عمر كان على خلاف معهما، وأنه كان يحمل لهما قدرا كبيرا من الكراهية، ويتحين الفرص للقضاء عليهما وهو ما يستفاد من كلام الشيخ سيدي الزْوِينْ: "إن ذاك الظالم (عيسى بن عمر) يطلب يد أختكما. أعطوه إيّاها. ولكن لا تجتمعا عنده، لا في فرح، ولا في ترح". ونزولا عند طلب الشيخ سيدي الزْوِينْ، فقد قبل الأخوان بزواج أختهما من القائد عيسى، إلا أنهما أخذا بكلام الشيخ، فلم يجتمعا عنده أبدا، رغم المصاهرة، فكانا إذا حضر أحدهما عنده لغرض ما، تأخر الآخر، وتأكد كلام سيدي الزْوِينْ، عندما شرع القائد عيسى بن عمر، يضع المكائد تلو المكائد من أجل الإيقاع بالقائد أحمد بَنْ بَّا، عندما خلف والده سنة 1900م.
كيف تعايشت عَيْطُونَةْ (أم زُلِيخَةْ) مع هذه المكائد والأحداث؟
لقد تعايشت السيدة عَيْطُونَةْ مع هذه الأحداث، واستطاعت - بفعل حنكتها ودرايتها - تجاوزها بفعل التدخلات التي كانت تقوم بها عند القائد عيسى بن عمر، والتي عادة ما كانت تحظى بقبوله نظرا للمكانة التي كانت لها عنده، ومن هذه التدخلات نذكر أنه خلال الخلاف الذي وقع سنة 1902م، بين قواد قبيلة أحمر الأربعة (مَسْعُودْ بَنْ الْعَرْبِي وأحمد بَنْ عَلَّالْ بَنْ بَّا من جهة، وقاسم وَلْدْ بَالْقَاضِي وقَدُّورْ الْخُولَاقِي من جهة أخرى)، تدخل سي عيسى لصالح الجناح الذي يضم صهره، وتدخل الخليفة السلطاني مولاي حفيظ، لصالح الجناح المعارض، مما أدى إلى اشتداد واتساع الخلاف، وقد تدخل المخزن لمساندة الجانب الذي يؤيده قائد عبدة، حيث أسفر النزاع عن انتصار القائدين اللذين أيدهما الخليفة. ولما حاول سي عيسى الاستعانة بالسلطان لعزلهما، تمكن مولاي عبد الحفيظ من إعادة المياه إلى مجاريها، وأقنع السلطان بترك القواد الأربعة كل في قيادته، غير أن التكرار المتوالي للمؤامرات التي كان يحيكها القائد ضد القائد أحمد بَنْ بَّا وخليفته "أخوه محمد"، جعلها - بعدما استنفدت كل وسائل الوساطة مع زوجها القائد عيسى بن عمر - تلتحق بابنتها زليخة بالشاوية، وهو الحدث الذي تشير إليه إحدى حبات عيطة "تْكَبَّتْ الْخَيْلْ". (تْكَبَّتْ عَبْدَةْ عْلَى أَحْمَرْ، سَالُوا قِيَّادْ الشَّاوِيَةْ). وبذلك تقدم لنا السيدة عَيْطُونَةْ نموذجا للمرأة القروية الحمرية، التي ساهمت في مجموعة من الأحداث التاريخية، التي تخص أسرتها وأسرة القائد سي عيسى.